مباريات الكراهية بين العرب من المتسبب فيها

لم تكن الخسارة الكروية هي أكبر أحزان المصريين أمس ، فقد هال مشجعو المنتخب في المباراة الحاسمة المؤهلة لمونديال كأس العالم 2010 والتي أقيمت بالخرطوم ، إصرار نظرائهم من الجزائريين على إيذائهم برشقهم بحجارة وأسلحة بيضاء وخاصة بعد المباراة ما تسبب في وقوع إصابات بالفعل ، رغم أن هذه المباراة انتهت بفوز المنتخب الجزائري ، وعلى الجانب الآخر برر الجزائريون الضالعون في العنف موقفهم بالإعتداءات المصرية عليهم في القاهرة ، والتي اتضح أن معظمها أكاذيب روجتها الصحافة الوطنية هناك وذكّاها المسئولون والرياضيون الجزائريون .

والآن نرى مشاهد الفتنة المصرية الجزائرية ، ولا أحد يعلم متى تنتهي ، فما حقيقة الأمر ومن يؤجج التعصب بين الشعوب ،أو من استطاع أن يحول مباراة لكرة القدم لبوادر أزمة شعبية ودبلوماسية بين بلدين في أشد الحاجة لنبذ الخلافات والإلتفات لأوضاعهما وأوضاع أمتهما المتردية بشدة . طرحت " محيط " هذه التساؤلات على كتاب ومثقفين من البلدين وتحمل السطور التالية رؤيتهم .

لمصر والجزائر تاريخ من الكفاح والتعاون المشترك موغل في قدمه ، وأمثلة ذلك كثيرة كما يوردها المشتغلون بالتاريخ ؛ فمنها في الخمسين سنة الماضية وحدها إمداد الجزائر لمصر بالمال والسلاح منذ نكسة 67 وحتى نصر أكتوبر 73 في عهد الرئيس الجزائري بومدين ، أما مصر فقد قدمت ما يزيد على ثلاثة آلاف ونصف شهيد من أبنائها عساكر وضباط بالجيش المصري في ثورة الجزائر للتحرر من فرنسا ، كما استشهد ما يقرب من 100 ألف مصري خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956 وكان من أهم أسبابه دعم جمال عبدالناصر لقادة ثورة الجزائر ، بل وكانت القاهرة مقر قيادة الثورة الجزائرية وكانت أسلحة المقاومة تهرب من مصر عبر الصحراء الليبية ، وظلت داعمة لثورة الجزائر حتى أعلن الاستقلال في أول يوليو 1962 .

وسافر آلاف المصريين بعدها لتعليم الجزائريين اللغة العربية وكانوا معظم أساتذتها هناك ، واحتفى الشعب الجزائري برموز مصرية عديدة بدءا من عبدالناصر، للإمام محمد الغزالي ، الداعية الكبير يوسف القرضاوي ، الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ، أما النشيد الوطني الجزائري فلحنه محمد فوزي . كما تعد مصر شريكا اقتصاديا هاما في الجزائر في مجالات الاتصالات وغيرها ، فضلا عن صلات البلدين السياسية الوطيدة .


حبيب مونسي

ردا على تساؤل "محيط" اعتبر الكاتب والأكاديمي الجزائري د. حبيب مونسي أن ما شاهدناه يعد جاهلية القرن العشرين ، والرهان فيها على تفريق الشعبين وبعث النعرات. وأرجع ما يحدث لمصالح جيوسياسية يتم التخطيط لها استعدادا لعمل أوسع وأشمل يستهدف وحدة الأمة العربية ، وهي نفس الوحدة التي واجهنا بها جميعا العدوان الإسرائيلي في السبعينات . وهناك قوى تشتغل على قتل هذا التآزر ليتم لهم الاستفراد بمصر بعدما استفردوا بفلسطين والعراق .

وبرأيه فقد أحسن دعاة التفرقة في جعل اللعب قضية تسال فيها الدماء وأن العيب في ذلك يعود على حكامنا الذين نفخوا في الفرحات الصبيانية ليخفوا وراءها خيبات الشعب المتكررة . وقد كان بإمكانهم وقف فضائيات الفتنة التي تمولها جهات مشبوهة ، وبإمكانهم فصل كل صحفي يتجرأ في وصف أو كذب ، والمؤسف أن المباراة قدمت الفرصة للجهات الحاقدة لتبث سمومها وتركت جراحا غائرة ؛ ولن نرى قريبا جزائريا يهب لنصرة مصري ولا العكس .

ويضيف مونسي أن علماء الدين كان بوسعهم تحذير الشعبين من المشاركة في هذا اللغط البغيض ، ويؤكدون أن الإعلام كثيرا ما كان دعاته دعاة فتنة ، وكان بوسع المثقف أن يترفع عن الصياح ويتحدث بموضوعية للجماهير عن الخدعة التي تجاوزت حد التنافس الشريف إلى التآمر وأن وراءها مدبرين في مستطاعهم رشوة حتى حاكم المبارة.

وكانت الأديبة الجزائرية المعروفة أحلام مستغانمي قد صرحت مؤخرا بأن هذه المباراة يجب أن نهديها لإسرائيل ، وأكدت أننا يوم كانت لنا قضايا كبرى نموت من أجلها وكانت لنا سواعد تصنع نصرنا ، كانت الكرة مجرد طابة تتقاذفها الأقدام ، اليوم نحن نضخم الأشياء الصغيرة بعد أن صغر ما كان كان كبيرا في حياتنا "

سماحة المصري


غلاف الكتاب

من جهته رأى مؤلف كتاب " في أسباب التعصب" الباحث المصري د. هاني الجزار ، أن الجماهير المصرية بنيتها لا تحمل تعصبا ، ولكن إنتماء للوطن بعكس الجزائر نجد أن بنية الشعب تحمل شيئا من التعصب وتمييزا بين دول المشرق العربي ( المشارقة) وبين مجموعة دول المغرب العربي ( المغاربة) ، وللأسف فقد ضعف اهتمام شريحة كبيرة منهم برابطة الأخوة العربية وزاد الاعتزاز بالأنساب العرقية.

وتابع الجزار بقوله أن المصريين شعب وجداني مسالم بطبعه ، ودائما يكون تعصبه ردة فعل لسلوك عدواني حادث أو محتمل ضده ، وساعد على ذلك تنشئته الحضارية ؛ إذ بحكم موقع مصر الجغرافي المتوسط المنفتح على شعوب العالم ودولها وتوالي احتلالها من إمبراطوريات كثيرة ، أصبح المصريون متنوعين في الفكر والسلوك والشكل وربما أصبحوا أكثر ميلا للتسامح مع الآخر ، والدليل على ذلك أننا منينا بالهزيمة في المباراة المؤهلة للمونديال ومع ذلك لم يتعد مصري واحد على جزائري في السودان ، بل الغريب أن العكس هو الذي حدث .

وفي تعريفه للتعصب قال الباحث أنه يعني تركيزك على نفسك وحدك وعدم قبول الآخر المختلف ، ويشمل ثلاثة جوانب : حكم معرفي يكونه الشخص بداخله بدون سند موضوعي واقعي عن الطرف الآخر ، ويعقبه مشاعر كراهية ، ثم تكون المرحلة الثالثة بسلوك تمييزي عدائي ضد الآخر .

اما تعصب المشجعين الجزائريين فله مسببات ثقافية ، وفق د. هاني ؛ إذ شريحة عظيمة من الشعب أصبحت أكثر ميلا لفرنسا ولغتها عن العالم العربي ، فيتحدثون بلغة فرنسية ، أو تمزج العربية بالفرنسية ، وخطورة الموروث الثقافي أنه يؤثر في سلوكياتنا لا شعوريا ويتم توريثه عبر ميكانيزمات غير مرئية ، ويركز على غريزة لدى الإنسان وهي الميل للتعصب والتي تظل كامنة إلى أن تأتي عوامل لتوقظها . اما خطورة التعصب الثانية فهي أنه قابل للعدوى مثل الميكروبات وبالتالي ينتشر بسرعة بين الجماهير .


جماهير مصر

حالة إفلاس

د. حسنين كشك الخبير الاجتماعي المصري قال لـ"محيط" أن تاريخ الصراعات العنصرية المصرية الجزائرية كان هو سبب الفتنة الجارية ، وأضاف إلى ذلك الشحن الذي قامت به وسائل الإعلام من البلدين ، فقبل أيام من المباراة التي شهدتها القاهرة شاهدنا كافة القنوات والصحف والإذاعات لا هم لها سوى المباراة وتذيع حتى الأغاني الوطنية وهذا ما شحن الجماهير ، ومن المعروف أن الشعب الجزائري أكثر ميلا للتعصب من المصريين ، ولكن لا توجد كراهية حقيقية بين الشعبين ، حتى لو ظهر ذلك بين المشجعين ، فبين المشجعين الأوروبيين للرياضة أحداث عنف شهيرة ولم يرجعها أحد لكراهية الشعوب فيما بينها .

من جانبه رأى الكاتب والمترجم د. شوقي جلال والذي عاش فترة من حياته بالجزائر ، أن مشكلة الجماهير العربية والمصرية بوجه أخص أنها تعيش حالة من الفراغ الثقافي والسياسي والعلمي وحالة إفلاس من حدوث أي انتصارات تبشر بخير وتسبب الفرح والاعتزاز بالوطن ، وهذا راجع لطبيعة النظام الحاكم الذي يسعد بولع المصريين بكرة القدم باعتبارها إدمانهم الوحيد ، وانتصارهم الوحيد ويدعم هذا التوجه كثيرا ، رغم أن الكرة واحدة من الرياضات فحسب ولا يعيب المصريون حبهم لها وإنما انشغالهم بها دون الأمور الجدية الملحة .

وانتقد جلال إعلام مصر والجزائر الذي أشهر المباراة وكأنها معركة فاصلة بين جيشين ، ورأى أن أي زعيم سياسي له شعبيته لو تحدث عن الروح الرياضية المطلوبة لكانت الأمور هدأت نسبيا ، وقد بادر د. عمرو الشوبكي المثقف المصري بأن يقوم عدد من المثقفين الجزائريين في فرنسا بتوقيع بيان يدينون



فيه العنف بحق المصريين ،

شوقي جلال
وهو ما حدث فعلا .

وأكد أيضا أن سمعة مصر تراجعت كثيرا لدى معظم الشعوب العربية التي ظلت تنتظر دور الشقيقة الكبرى في أحلك الأزمات ولم تجدها ، وأن المسئولين والمثقفين في مصر يرددون مقولات لم يعد لها مفعولها عن حضارة السبعة آلاف عام ، وهذا الانتقاد للوطن لا يعني أن الدول العربية أسعد حالا منه ، ولكن مصر تحديدا كانت لها ريادتها ومكانتها بين العرب والتي ضاعت حاليا .

ولا يرى جلال أن هناك كراهية لدى عموم الشعب الجزائري تجاه مصر ، فقد عايشهم لسنوات طويلة ورأى أنهم يحترموننا كشعب ويقدرون الدور المصري في ثورتهم من أجل التحرير ، ولكنهم يفتقدون الدور المصري وبخاصة السياسي ويؤكدون ذلك .

No comments:

Post a Comment