هل اشترى الاقباط الثروة وباعوا السلطة

منذ عشر سنوات نشر في مجلة " وجهات نظر " تقريرا عن أحوال المسلمين والأقباط في مصر وضع يده فيه علي جذور الفتنة الطائفية وكشف بعضا من غموضها وأسرارها.. ولأن لا أحد توقف طويلا عند ما نشر فإن الأحداث الدموية بين "عنصري الأمة " انفلتت.. وتوحشت.. وغرقت في دماء أبرياء.. وآخرها ما حدث في نجع حمادي.

إننا نعيش " حالة من الفوضي ( الطائفية ) تشارك فيها الأقلام والحجارة والسيوف وتفتي فيها صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون ومنابر المساجد وأجراس أبراج الكنائس ".. حالة صاخبة.. متوترة.. تحتاج في النهاية إلي صوت عاقل يطالب بالتمهل.. ويقول : «كفاية».. فسلطة الدولة العليا هي المكلفة قبل غيرها بهذا الملف المتفجر بالرعب.

إن موضوع الوحدة الوطنية وموضوع مياه النيل دون غيرهما وقبل غيرهما هما اختصاص أصيل لرئاسة الدولة ومسئولية غير قابلة للقسمة تحت أية دعاوي بما في ذلك دعوي الفصل بين السلطات أو دعوي الممارسة الديمقراطية.. ذلك أن مسألة دينين علي أرض ووطن واحد وكذلك مسألة نهر هو المصدر الوحيد للحياة تجيء موارده من خارج الحدود هما مما لا يجوز فيه التفويض ولا طول الجدل والتزيد ".

كلتا المسألتين في ظني واعتقادي أهم وأخطر من أي مسألة أخري.. حتي مسألة الحرب والسلام.. حتي مسألة التنمية والتكنولوجيا.. ذلك أنه بدون سلامة القاعدة الوطنية وبدون حماية مياه النيل والمحافظة عليها يصبح أي كلام عن الأمن وعن المستقبل سبقا للأوان بالقفز علي الحقائق ".

كان الدين ــ علي خلاف النيل حتي الآن علي الأقل ــ مكمنا مشحونا بالخطر.. لقد ظلت مياه النيل لقرون طويلة في أمان.. " أما عقائد الدين فقد كانت باستمرار في الميدان ".. "والتفسير واضح فالنيل في حضن الطبيعة أما الدين ففي قلوب البشر.. وفي حين أن الطبيعة مستقرة علي أحوالها فإن قلوب البشر تتنازعها تقلبات الأيام".

لقد اخترعت مصر الأبدية علي حد قول وزير الثقافة الفرنسي الأشهر أندريه مالرو وظلت مغرمة بالدين مرحبة بكل جديد فيه.. فعندما وصلت المسيحية " لم تتبعها فقط وإنما قادت أحد مذاهبها الكبري وراء مرقص قديسها الأعظم.. وعندما أقبل الإسلام فإن جيش عمرو بن العاص لم يكن قوياً بسلاحه (أربعة آلاف جندي بالسيوف والحراب ) وإنما كانت قوته الحقيقية هي الشريعة " التي شدت الجماعة الكبري من سكان مصر في حين أن جماعة أخري ( لها وزنها ) آثرت أن تظل حيث كانت علي عقيدتها المسيحية ".

في العصر الحديث سعي الاستعمار البريطاني جاهدا لاستغلال الاختلاف الديني.. وأوحي بأن الأقباط وهم مسيحيون أقرب إليه من المسلمين.. لكن.. تلك التفرقة المذهبية تهاوت مع ثورة 1919 الليبرالية التي "أخذت بخيار الدولة الوطنية المستقلة وكان نجاحها الأعظم هو تبنيها لمبدأ "المواطنة " من واقع وطن واحد يتعايش علي أرضه دينان ومن الإنصاف أن يقال إن نقطة التحول في هذا الاتجاه جاءت من قيادات قبطية ".

إن الأقباط هم الذين سعوا بأنفسهم إلي المشاركة السياسية ولم يستسلموا لشعور سيطر علي أغلبهم بأنهم أقلية تنتظر "كوتة " في المناصب والكنائس ومقاعد البرلمان كما هو الحال الآن.. " فقد حدث في بداية الثورة أن وفدا تشكل لمقابلة المندوب السامي البريطاني لإبلاغه بمطالب وطنية علي رأسها مطلب الاستقلال ثم تحول الوفد إلي حزب يحمل نفس الاسم تعبيرا عن أن المطالبة بالاستقلال مازالت مستمرة ولم يكن الوفد يضم بين أعضائه حتي هذه اللحظة أقباطاً.. وهنا ذهب عدد من أقطابهم إلي سعد زغلول (باشا) يسألونه : " إذا كان مبدأ استقلال الشعب المصري هو المطلوب فكيف يجوز تشكيل الوفد المصري المطالب به دون أقباط مصر.. وكانت تلك علامة فارقة في مسار الحركة الوطنية المصرية ".

بتلك المشاركة السياسية للأقباط أصبح الوفد حزب الأمة الذي لو رشح " طوبة في دائرة لنجحت ".. وهو ما حرض أحزاب الأقلية ضده.. فسعت لمساندة الملك فؤاد في تطلعه للخلافة الإسلامية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية.. وهي في الحقيقة " لم تجد في عدائها للوفد دعوي تقدم بها نفسها إلي الشارع المصري غير دعوي التواجد القبطي الظاهر في قيادة الوفد ".. أو دعوي الغيرة علي الإسلام " مستغلة ظهور الأقباط في الوفد ".

ورغم تهاوي الوفد ــ في حياة سعد زغلول ــ بسبب قبوله بالإنذار البريطاني في أعقاب اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري فإنه لم يسقط تماماً وساعده علي مواصلة مشواره شخصية قبطية شهيرة ومؤثرة هي مكرم عبيد.

بعد رحيل سعد زغلول كان مصطفي النحاس زعيم الوفد ولكن القيادة الفعلية للحزب كانت في يد مكرم عبيد.. وفي حين أن الأول كان يلقب بالزعيم الجليل فإن الثاني كان يوصف بالمجاهد الأكبر.. بل أكثر من ذلك كان مكرم عبيد هو الشخصية النافذة في الحزب الذي طرأت عليه تغييرات حادة بعد زواج زعيمه مصطفي النحاس وهو في الخامسة والخمسين من فتاة شابة جميلة في العشرين هي زينب الوكيل.. فقد راحت العروس الجذابة تنافس مكرم عبيد في التأثير علي زوجها.. زعيمه.. " ومع تزايد سلطان البيت فإن الحزب راح يتناقص ومكرم عبيد بواقع الحال أول من يحس بالتغيير ".

وعندما عاد الوفد إلي الحكم بعد أن أجبر الإنجليز الملك علي ذلك في 4 فبراير 1942 لم يكن مكرم عبيد سعيدا بذلك.. وفي الوقت نفسه لم ينس الملك الانتقام من كل أطراف الأزمة وعلي رأسهم بالطبع حزب الوفد «والتركيز علي مكرم عبيد سكرتيره العام باستغلال ما طرأ علي مشاعره الداخلية في السنوات الأخيرة».. وتولي مهمة الوقيعة أحمد حسنين رئيس الديوان الذي راح يثأر لسيده بانشقاقات متتالية داخل حزب الوفد أبرزها خروج محمود فهمي النقراشي وأحمد ماهر وتشكيل حزب السعديين المشتق من اسم سعد زغلول.

لكن.. خروج مكرم عبيد كان أكثر تأثيرا.. فتركه الحزب يكسر تمثيل الحزب للأمة.. ويضمن خروج الأقباط منه.. علي أن يجري تعويض ضعفهم السياسي بدفعهم أكثر نحو المجال المالي.. " والغريب أن تلك كانت أحد المعالم الرئيسية في سياسة اللورد كرومر غداة الاحتلال البريطاني لمصر فقد كتب ينتقد الأقباط لعدم مجاراتهم للإمبراطورية البريطانية وهي مسيحية مثلهم وكان رأيه ترتيبا علي ذلك أن الأقباط لا يرجي لهم دور سياسي مؤثر في مصر والحل أنه يمكن تعويض ضعفهم السياسي بقوة مالية.. تؤدي إلي توازن يعطيهم نوعاً من التأثير السياسي حتي وإن كان صامتا".

وانشق مكرم عبيد عن الوفد.. واعتقله مصطفي النحاس بوصفه الحاكم العسكري.. وبعد تحرره أسس حزب الكتلة.. وأصبح وزيرا للمالية.. وراح يخط صفحات الكتاب الأسود عن فضائح الوفد.. وبعد أن استغله القصر استغني عنه.. ولم ينفع الندم علي ما فعل.. فقد وصف مصطفي النحاس دموعه بدموع التماسيح.

ولا يجب أن ينسي لمكرم عبيد أنه علي خلاف غالبية الأقباط كان يؤمن بانتماء مصر لمحيطها العربي وشارك في لقاءات ومؤتمرات مع حزب البعث في الشام.. " وكان رأيه أن الإسلام ليس دينا فقط وإنما محيط حضاري التقت فيه ثقافات الأمم التي اختارت الإسلام وجاءت كل منها بمواريثها إلي ساحته وصبت فيها خلاصة ما عندها وتفاعل الجزء مع الكل وكان أن الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها خلقت محيطا حضاريا عاما جوهره الإسلام وامتزاج ثقافات شعوبه ثم إن هويته النهائية في العروبة وفي حين أن كثيرين من الأقباط حتي بين مفكريهم خلطوا بين القومية العربية وبين الدين فإن مكرم عبيد ظل يري التخوم ظاهرة والملامح واضحة ".. وكان ذلك فكرا متقدما سبق ما جاءت به ثورة يوليو التي كانت علي الأبواب.

لم يكن من بين تنظيم الضباط الأحرار ضابط واحد قبطي بل إن بعضهم مر في مرحلة من حياته بتنظيم الإخوان المسلمين ومنهم جمال عبد الناصر نفسه.. وفي الوقت نفسه لم تكن الكنيسة القبطية في أحسن أحوالها.. ووصل تدهورها إلي حد أن جماعة من شباب الأقباط كونوا تنظيما عرف باسم «جماعة الأمة القبطية» سعوا لاستعادة حقوقهم الضائعة وقاموا بخطف رأس الكنيسة البطريريك يوساب ونقلوه إلي دير معزول في الصحراء وجري إرغامه علي توقيع وثيقة بالتنازل عن كرسيه البابوي.. ووقف النظام الثوري الجديد يتفرج.

وبينما انشغلت العائلات القبطية الثرية باستثماراتها الاقتصادية تورطت الثورة في أفكار قيادات الحزب الوطني القديم (عبدالرازق السنهوري وسليمان حافظ) المعادية للوفد في الظن بأن " لا أمل لأي " أقلية دينية " أن تشارك في الحياة السياسية علي مستوي يرضيها والحل هو التعويض الاقتصادي عن الغياب السياسي ".. وجري اختيار كمال رمزي ستينو ليكون ممثلا للأقباط في السلطة الجديدة.

وفي الدوائر الخارجية الأوسع كانت الحرب الباردة علي أشدها واستغلت الولايات المتحدة الأديان لمحاربة الشيوعية " الكافرة ".. وراجت فكرة الحلف الإسلامي.. وقوي تنظيم مجلس الكنائس العالمي.

ورغم أن جمال عبد الناصر ساند وساعد البابا كيرلس في بناء الكاتدرائية المرقسية في العباسية ورغم أنه كان يسمح للأقباط ببناء 25 كنيسة كل سنة فإن تواجد الأقباط في المناصب الحساسة كان رمزيا ولعل بداية ما يعاني منه الأقباط الآن جري تأسيسه بيروقراطيا في ذلك الزمان.

وما كان مكتوماً أيام جمال عبد الناصر أصبح مكشوفاً أيام أنور السادات خاصة أن أنور السادات استخدم الدين الإسلامي لمحاربة خصومه من التيارات اليسارية المختلفة وكان ذلك ايضا توجيها أمريكيا ساد العالم كله بخطط مؤثرة أو موحية.. ومع قدوم راهب مقاتل مثل البابا شنودة علي رأس الكنيسة جري الصدام وظهرت الفتنة.. واشتد الصراع بين الرجلين.. البابا والرئيس.. وانتهت تلك الحقبة بنفي البابا في دير صحراوي.. واغتيال الرئيس في حادث المنصة.. لكن.. الفتنة التي خمدت قليلا عادت أكثر شراسة.

ومما عرضه هيكل فإن مسئولية الرئيس عن ملف الوحدة الوطنية لا ينفي أن الأقباط قبلوا بمبدأ التعويض الاقتصادي عن المشاركة السياسية.. فقد عادت العائلات القبطية للسيطرة علي نصيب متزايد من الثروة في الوقت الذي بايعت فيه السلطة.. فكان ذلك اختيارا يشبه الصفقة الخفية بينها وبين النظام.

وفي الوقت نفسه راح البابا شنودة يوسع من دائرة مملكته بالقتال من أجل زيادة عدد الكنائس والأديرة وكانت تلك مشكلته التي كان من السهل حلها بعد المساومة عليها.. وفي المقابل أضيف هو نفسه إلي رصيد المبايعة ــ للقائم والقادم ــ علي بياض.

وظهرت بوضوح قوي الضغط الخارجي وبدا ان أطراف المشكلة يعملون حسابها.. بالاستجابة من السلطة.. وبشعور الراحة من الأقباط.. ولم يكن ذلك حلا.. وإنما مزيد من فقدان الثقة.

وفي ظل تنامٍ للتيارات الدينية علي الجانب الآخر وتغلغلها في كافة الطبقات الاجتماعية أصبحت الطائفية شعورا يكاد يكون عاما وهو ما ضاعف المشكلة وعقدها.

ولو كان هناك تمييز ديني فإنه جزء من تمييز أكبر وأوسع بين فقراء لا يجدون شيئا وأثرياء يبتلعون كل شيء.. بين جماعة محدودة عاجزة وجدت في نفاق السلطة وسيلة لتولي المناصب وجماعة موهوبة محرومة من الظهور لمجرد أنها مستقلة عن تيار الاستسلام ومحسوبة علي تيار الخصام.

والحل ليس في كلمات جري تفريغها من معانيها مثل المواطنة وحكم القانون والمساواة في الحقوق والواجبات وإنما في الإصرار علي نظام ديمقراطي يسعي الجميع إليه ويشاركون في الحفاظ عليه يرد لتلك الكلمات اعتبارها وهنا يجب أن يسبق الأقباط المسلمين كما حدث من قبل في ثورة سعد زغلول وألا ينتظروا من يمنحهم حسنة أو كوتة.

No comments:

Post a Comment