فرنسا وايطاليا واسرائيل اسماء لقرى مصرية
" ابني سافر علشان يساعدني في تربية إخواته ،لكنه ما رجعش" بهذه الكلمات البسيطة رسم ممدوح عبد العزيز السيد والد قتيل ايطاليا رحلة ابنه القصيرة ، لم يكن يدري وهو يودعه أنه لن يراه مرة أخري وأن ذلك اللقاء الذي جمعهما قبل سفره هو الاخير. غلبته دموعه ولم يستطع ان يكمل، لقد فقد ابنه الاكبر ، فقد فلذة كبده في غمرة رحلة البحث عن المال اللازم لرعاية أسرته ومساعدة والده العجوز. لم يكن أحمد ممدوح عبد العزيز هو الأول والاخير الذي لقي حتفه في رحلة الموت .
فمنذ عامين القي 7 من قرية مجاورة مصرعهم عندما غرقت بهم المركب في عرض البحر المتوسط ، ورغم ذلك لا تزال تلك التجارة رابحة للعديدين في تلك المنطقة وما جاورها. في الشرقية توجد مجموعة من القري تعرف باسم "قري ايطاليا "، وتتركز هذه القري في مركز منيا القمح وتحديدا قري ميت سهيل وكفر ميت سهيل ودهمشا وبني هلال وميت جابر والعزب والنجوع المحيطة بها. اصبح السفر لايطاليا حلما لكل ابناء تلك القري بغض النظر عن المخاطر والاهوال التي يواجهونها ،فيقول جابر عيد " انا اتسجنت شهرين هناك بعد ما اتمسكنا علي الحدود واحنا بنجري بعد ما المركب اتكسرت وسط المية ، وبعدين رحلونا لمصر ، ولسه عندي امل ارجع تاني"
لم يكن يحلم بأكثر من بيت يتزوج فيه وقطعة أرض يزرعها ليحصل منها علي قوت يومه ، رأي فتحي عليوة أحد أبناء قرية " ميت سهيل " بمحافظة الشرقية أقرانه يهاجرون ويجمعون المال ويعدونا لبناء العمارات الفارهة ويركبون السيارات الواسعة ويشترون أفضل وأجود الأراضي في محيط قريتهم ، لم ينتظر.. قرر السفر والبحث عن الثراء والمال .
عليوة لم يكن الوحيد ، فقد انطلق شباب هذه القرى وراء سراب المال والغنى، فاستدانوا وهاجروا.. ركبوا رحلةَ الموت في طريقهم إلى الثراء كما اعتقدوا، فمنهم مَن نجح ومنهم مَن غرق وانتهى أمره.
اقتنع أهل هذه القري بأن الهجرة هي الحل الأمثل لتلك الحياة التي يعيشونها " فإما نموت ونرتاح وإما نعبر ونعيش أحلي حياة" ، وهكذا تحولت قري مصرية بأكملها إلي الهجرة غير الشرعية عبر البحر في رحلة هلاك محتوم ، ومع العائدين المحملين بأوراق اليورو ، تحولت تلك القري بين عشية وضحاها من قري فقيرة معدمة إلي قري مكتظة بالقصور والأبراج الفارهة وأصبحت تلك الثقافة السائدة في هذه القري حتي تحولت أسماءها إلي أسماء تلك الدول.
فمثلا قرية ميت سهيل بمحافظة الشرقية يطلق الأهالي عليها " إيطاليا ، أما قرية "نوسا الغيط" في محافظة الدقهلية تُسمَّى قرية فرنسا ، وقرية "ميت العامل" تحولت إلى قرية اليونان، أما قرية "نوسا البحر" التي أصبحت قرية "إسرائيل".
صباح يوم 30/03/ 2010 غرق شابَّان من محافظة الشرقية بنقطة الطابية الحدودية على ملتقى النيل بالبحر المتوسط، بالقرب من بوغاز رشيد؛ وذلك أثناء محاولتهما الهجرة غير الشرعية مع حوالي 50 شخصًا آخرين معظمهم من الشرقية، تمَّ القبض على 23 منهم، بينما هرب الباقون. الأمر المتكرر الذي نسمع عنه كل يوم ، هجرة غير شرعية ، بحث عن المال والثراء ، حلم الثراء السريع لمواجهة شبح الفقر والبطالة، الغيرة القاتلة من الشباب العائد من ايطاليا يستقل السيارات الفارهة ويعيش في قصور وفيلات .
ويقع الشباب ضحية لهذا النوع من الهجرة غير الشرعية سعيا وراء أوراق اليورو التي دائما ما تكون ملطخة بدمائهم. ويروي محمد عبد المنعم قصة الفلاح الذي فقد اثنين من أولاده وهما في ريعان شبابهما وإصراره علي تهجير ابنه الثالث إلي إيطاليا..
فقد اتفق الأب مع السمسار لسفر ابنه الأول مقابل 35 ألف جنيه وعندما غرق الابن الاول ومات عاد السمسار ليرد المبلغ الي الأب فرفض الأب وقال المبلغ لسفر شقيقه الثاني وتكرر الحال وأكلت حيتان البحر المتوسط الابن الثاني فعاد السمسار ليكرر اعادة المبلغ فرفض الأب أيضا وقال له المبلغ لسفر الابن الثالث الذي كان يبلغ من العمر وقتها نحو14 عاما وسافر هذا الصبي ومازال هذا الابن في إيطاليا منذ أكثر من أربع سنوات ليجمع ورق اليورو الملطخ بدماء أقرب الناس اليه وهما شقيقاه.
ارتفاع المباني في القرى البسيطة والسيارات الفارهة واختلاف مستوى المعيشة قبل السفر وبعده جعل الهجرة غير المشروعة حلمًا للعديد من أبناء تلك النواحي، خاصةً إيطاليا، فيمكن أن تجد ثلاثةً أو أربعةً من منزل واحد في رحلات مختلفة، فإذا أخفق أحدهم وصل الآخرون ، فنداء المال والشهرة أصبح عملاً للجذب للهجرة ومواجهة المخاطر من أجل العمارة والمرسيدس. مثل أي قرية في الريف المصري تجد مدخلا يدل علي البساطة وقلة ذات اليد إلا أن التفاوت المريب في مستوى المباني والعقارات لا يمكن أن تخطئه عين؛ فهناك قصر فخم في شارع بسيط ، وبرج عال جدًا بجوار مبنى آيل للسقوط .
والسبب ببساطة أن هذه المباني يُطلق عليها "مباني إيطاليا" يملكها أفراد معينون فقط ، أما المباني الأخرى فهي لأهل القرية الذين لم يسعدهم الحظ ويسافر أحد أبنائهم إلى إيطاليا. كما افتتحت محلات للصرافة بالقرية لتداول كل شيء من العمارات إلي الأراضي يباع ويشتري بعملة اليورو حتي المستلزمات اليومية من الخضار والفاكهة. ويرفض شباب إيطاليا- كما يُطلق عليهم الآن- أن يستثمروا أموالهم في أي مشاريع أو حتى التبرع بجزء منها لمساعدة المحتاجين، فقط يشترون السيارات الفارهة ، وينفقون على أسرهم ببذخ ؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات في تلك القري إلى أرقام خيالية تصل إلى 5 آلاف جنيه للمتر الواحد في أسوء الأماكن؛ مما أصاب سوق العقارات بالشلل التام.
ويهوى شباب إيطاليا العائدون الإعلان عن وجودهم بقوة بحكم ما جمعوه من مال، فيشترون الأراضي الزراعية بأي مقابل، فالطين ما زال هو رمز القوة في تلك القرى، وتُقاس هيبتك بما تمتلكه من أراضٍ زراعية ، فضلاً عن بناء العمارات الفارهة. وتعتبر السيارة المرسيدس هي النوع المفضل للعائدين من إيطاليا؛ لما لها من سمعة بين الناس من ارتفاع سعرها وفخامة منظرها، إلا أن شوارع تلك القرى لا تتسع لتلك السيارت الفارهة، فيضطر شباب إيطاليا إلى شراء أبراج ومنازل جاهزة في المدن القريبة.
الأمر الذي أدي إلي تغيير نمطية الحياة الاجتماعية لدي هذه القري وأهلها ،فمع عودة المصريين الإيطاليين إلي القري المصرية الإيطالية انتشرت تجارة المخدرات علنيًّا في القري بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت على الأموال العائدة من إيطاليا؛ مما أدى بدوره إلى تدهور الأحوال المالية لما يسمونهم بأثرياء إيطاليا؛ مما دفعهم للاتجار العلني في المخدرات ليس هذا فقط بل إن التفاوت الاجتماعي الناتج عن الوضع المادي من أشد الأضرار خطورةً على المجتمع القروي البسيط صاحب الاخلاق والمبادئ ؛ حيث يعتبر المقياس بين الناس ما يملكونه من أموال، وليس ما يتحلون به من أخلاق، أو ما يحصلون عليه من شهادات، أو بما يقدمه من نفع للآخرين.
الهجرة غير الشرعية تجاوزت مرحلة الحلم ليصبح "ثقافة" عند معظم الناس، فتراهم يقولون "إشمعنى ابن فلان سافر وجه بني برج، لازم ابني يسافر زيه"، ويشب الفتى فيرى إخوانه وأعمامه وأخواله وجيرانه مسافرين إلى إيطاليا، ويرى سياراتهم وعماراتهم فيكون الحل هو السير على منوالهم، وطريقتهم لتحقيق الثراء السريع.
حب الامتلاك
ويري أ.د بسيوني جاد أستاذ علم الاجتماع بآداب الزقازيق ان الهجرة غير الشرعية لم تعد فرصة يغتنمها الشباب للإنطلاق والعمل بل أصبحت ثقافة لدي أهل تلك القري ، وقد تدفعهم الظروف السيئة التي يعيشونها إلي المخاطرة الكبيرة والتي قد تؤدي للموت والهلاك.
ويشير جاد الى ان العائد من الهجرة يكون شخصيا بمعني أن من سافر وخاطر يعود ويعتبر ان ذلك نجاحه الشخصي حتي يؤمن حياة كريمة ، ولكنه ينقلب علي أهل قريته ليتفاخر عليهم ويعتبرهم أقل منه في المستوي ، وهذا بدوره يؤثر علي التركيبة الاجتماعية في الريف.
ويؤكد أن ذلك العائد بأموال إيطاليا غالبا لم يكمل تعليمه ،فهو لا يعرف غير لغة العملة ،فيسعي للسيطرة وحب الامتلاك وهو ما يظهر في النهب الشديد لشراء الأراضي وامتلاك الاطيان مهما ارتفع الثمن ، فضلا عن العادات الغربية التي جلبوها معهم ليفرضوها علي المجتمع الريفي البسيط.
.
مقاطع الفيديو
هجرة غير شرعية من مصر لأوروبا
No comments:
Post a Comment