ليلى فريد: أتصور أننا كلنا نعرف نجيب محفوظ،، أديب مصر العظيم الذى نال جائزة نوبل عام 1988، والذى تحالفت عليه قوى الظلام، فأصدر الشيخ عمر عبد الرحمن فتوى بتكفيره، كان من نتيجتها أن طعنه فى رقبته شاب جاهل مغيب، وهو شيخ فى الثالثة والثمانين من عمره، ونجا من الموت بمعجزة إلهية، ليرحل عنا عام 2006، مخلفا ثروة أدبية وفكرية تربو على الخمس وثلاثين رواية، والثلاثمائة قصة قصيرة، بالإضافة للعديد من المقالات، وخمس مسرحيات من فصل واحد.
وإنه لمن المثير للاهتمام أن نعرف موقع الشخصية المسيحية فى وسط هذا الكم الهائل من الأعمال. والحقيقة أنه من الصعب الفصل الكامل بين المسيحيين الذين أظهرهم محفوظ كشخصيات روائية، والمسيحيين الذين التقى بهم فى الحياة الواقعية. لأن العديد من شخوصه الفنية هى من وحى أناس حقيقيين عرفهم خلال مشوار عمره؛ كما سنرى لاحقا.
وسنلاحظ أن النماذج المسيحية فى أعماله قليلة. و السبب فى ذلك، فى تصورى، هو أن محفوظ لم يكتب إلا عما عرفه واختبره جيدا. فأعماله محورها الحارة والأحياء الشعبية، والطبقة الوسطى من موظفين وتجار وطلبة. لم يكتب مثلا عن الريف و الصعيد أو الفلاحين وعمال التراحيل ؛ ببساطة لأنها أماكن لم يعش فيها، و أناس لم يخالطهم. ومن الطبيعى أن يكون عدد من عرفه حق المعرفة من المسيحيين متفقا مع نسبتهم العددية فى مصر.
ولنتحدث قليلا عن ظروفه الحياتية التى شكلت حدود علاقاته ومعارفه. ولد نجيب محفوظ عام 1911 فى حى الجمالية لأسرة غير متعصبة، ولكن الثقافة الوحيدة فى بيته كانت ذات طابع دينى. أبوه لم يتردد فى تسميته باسم الطبيب القبطى الذى أنقذ الأم والمولود من الولادة المتعسرة. الأم - رغم أميتها- كانت مولعة بزيارة الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية. وكثيرا ما أخذت ابنها الصغير فى يدها وجالت به بين حجرة الموميات بالمتحف المصرى، والمساجد وأضرحة الأولياء، والكنائس والأديرة. ورغم أن معلوماتها عن كل هذه الأشياء كانت مغلفة بالأساطير، إلا أن الطفل قد تشرب منها التسامح والمحبة للجميع؛ فقد كان يسمعها تقول عن الحسين ومار جرجس أن كلاهما بركة، وكان يراها تصادق الراهبات، ويزرنها فى بيتها عندما تمرض.
ولكن نشأته الأولى فى الحى الشعبى المجاور للحسين، الذى يكاد يقتصر سكانه على المسلمين، قد جعلت دائرة أصدقائه فى هذه المرحلة المبكرة من حياته، تكاد تخلو من المسيحيين.
وعندما خرج إلى حياة أوسع، فى المدرسة والجامعة والوظيفة، اتسعت دائرة زملائه وأصدقائه؛ فدخل المسيحيون عالمه، ولكن بقدر محدود يتفق مع كونهم أقلية عددية.
نجد أن مجموعة الأصدقاء المقربين (الحرافيش) لم تضم إلا مسيحيا واحدا هو عادل كامل الذى كتب روايتان ثم انصرف عن صنعة الأدب.
وعندما اختار محفوظ سبع شخصيات ليكونوا طليعة أساتذته الذين يدين لهم بتشكيل فكره وثقافته، وضع من بينهم سلامة موسى؛ الرائد السابق لعصره فى آراءه التقدمية، وتبشيره بالعلم، ومناداته بالعدالة الاجتماعية. كان سلامة موسى مشجعا للموهوبين، ومدافعا عن الحق بغض النظرعن العقيدة الدينية أو الاتجاه الفكرى؛ فأفسح المجال للطالب الصغير نجيب محفوظ لنشر مقالاته فى المجلة التى كان يصدرها، ونشر له أول رواياته. ورغم الاتهامات المتبادلة بينه وبين العقاد وطه حسين، وقف بجوار الأول عندما سجن بتهمة العيب فى الذات الملكية، ودافع عن الثانى عندما طرد من الجامعة.
ومن أساتذة محفوظ المختارين أيضا الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذى تتلمذ على يديه فى قسم الفلسفة بالجامعة. وكان بدوره عالما مستنيرا بعيدا عن التعصب. ولم يمنعه اعتقاده أن تلميذه نجيب محفوظ مسيحى ( بسبب اسمه) من احتضانه و تشجيعه.
ولأن نجيب محفوظ كان وفديا حتى النخاع، شب فى أحضان ثورة 1919 التى طبقت عمليا شعار:" الدين لله والوطن للجميع"، فقد تشبع بمبادىء التسامح والمواطنة.
والواقع أن كل من عرفه يدرك تماما أنه كان أبعد مخلوق عن التعصب الدينى. أقواله وأفعاله- التى هى تعبير صادق عن مبادئه- تشهد بذلك. كان من أشد المعجبين بفن نجيب الريحانى. وكانت قائمة أصدقائه وتلاميذه تضم الكثير من المسيحيين الذين أخلص لهم الود، ولم يبخل عليهم بالتشجيع والإرشاد. لويس عوض ويوسف جوهر وغالى شكرى ومجدى وهبة وادوار الخراط ويوسف الشارونى وتوفيق حنا والفريد فرج ونبيل راغب وماهر شفيق كلهم أمثلة واضحة على ذلك.
لم يصدر عنه يوما¬- على امتداد عمره الطويل- قولا أو فعلا يشتم منه موقفا سلبيا تجاه المخالف له فى العقيدة. ولم تمنعه كراهيته للاحتلال البريطانى من تعلم الإنجليزية، والاستمتاع بالأدب العالمى، والإعجاب بمدرسيه الأجانب، وتقدير الحضارة الغربية، والدعوة إلى الاقتداء بالغرب فى تقدمه العلمى ورقيه الإنسانى. وكثيرا ما صرح بمفهومه عن الدين فقال:"الدين بمنتهى البساطة هو الإيمان بخالق هذا الكون. والمهمة الأساسية له هى معاملة الناس على أساس أخلاقى".
ومن الواضح أن محفوظ، بثقافته الواسعة، قد قرأ التوراة والإنجيل قراءة جيدة، وانعكست هذه القراءة على بعض أعماله القصصية. وها هنا أمثلة لها:
- القصة القصيرة أيوب، من مجموعة الشيطان يعظ،، هى من وحى سفر أيوب فى الكتاب المقدس. و تروى قصة رجل أعمال يتمتع، ويمتع أسرته، بالجاه والمال، أصابه مرض جعله قعيد الفراش ويعانى من الإحباط و الاكتئاب. وعلى غير توقع يزوره صديق قديم لم يره منذ عشرين عاما (د. جلال أبو السعود). ومن خلال أحاديثهما الطويلة يقود الزائر العجيب رجل الأعمال فى رحلة مواجهة مع الذات، ومكاشفة مع ضميره الذى عاش طويلا فى سبات عميق. وأسفرت هذه التجربة المزلزلة عن تحرر الغنى من زيف الحياة التى كان يعيشها، وعن تصميمه على التغيير. ورغم تعافيه من مرضه الجسدى، فقد قر قراره على اتخاذ خطوة شجاعة- رغم أنها ستقوض أسس حياته وحياة أسرته اللاهية بمسراتها- وهى كتابة مذكرات يعترف فيها بكل أخطاء الماضى والأساليب الملتوية والأعمال اللا أخلاقية التى أوصلته إلى المركز والثراء. وتذكرنا المناجاة الطويلة بين البطل وصديقه بمحاجاة أيوب مع أصحابه الثلاثة: أليفاز التيمانى وبلدد الشوحى وصوفر النعمانى ثم مع أليهو بن برخئيل البوزى.
- وقصة زعبلاوى فى مجموعة أهل الهوى، قد حللها و لفت النظر إلى إيحاءاتها الدينية القوية الناقد الدكتور ماهر شفيق فريد. بحث البطل هنا عن زعبلاوى الوحيد القادر على شفائه من دائه المستعصى، هو شبيه ببحث صابر فى رواية الطريق عن الأب الذى سيجد فى أحضانه الكرامة والسلام. هو بحث الإنسان- القديم قدم الخليقة- عن الله. القصة رمزية فزعبلاوى فيها " عجيب القدرة، يشفى من المتاعب التى يعجز عنها البشر. ولكنه لغز، لا يعرف له مكان، يحضر ويختفى بلا موعد". والواقع أن فى قصة زعبلاوى إيماءات كثيرة إلى شخص السيد المسيح. يقول البطل الباحث عنه: "أنا على استعداد لأعطيه ما يريد من نقود"، فيرد من يعرف زعبلاوى:"إنه لا تغريه المغريات، ولكنه يشفيك إذا قابلته". فيسأل غير مصدق: "بلا مقابل؟". ويأتيه الجواب: "بمجرد أن يشعر أنك تحبه". دعونا أيضا نتأمل فى أوصاف أخرى لزعبلاوى: "شيال الهموم والمتاعب. كنا نراه معجزة. فى وجه جمال لا يمكن أن ينسى. هو حى لم يمت. لا مسكن له". وتروى القصة أن البطل سكر وغاب عن الوعى، وعندما أفاق وجد رأسه مبتلا. وقيل له أن زعبلاوى قد حضر أثناء نومه، وعطف عليه فراح يبلل رأسه بالماء لعله يفيق. وطبعا العماد فى المسيحية هو رمز الميلاد الروحى الجديد. وتنتهى القصة بنبرة أمل وتصميم. فرغم فشل البطل فى لقاء زعبلاوى فإنه لا ييأس و يقول: " وقلت على أن أنتظر وأن أروض نفسى على الصبر. وحسبى أنى تأكدت من وجود زعبلاوى، بل ومن عطفه على، مما يبشر باستعداده لمداواتى إذا تم اللقاء... الحق أننى اقتنعت تماما بأن على أن أجد زعبلاوى. نعم، على أن أجد زعبلاوى".
- وفى أصداء السيرة الذاتية، وهى عبارة عن لمحات مبهرة لاتزيد الواحدة منها عن بضعة أسطر، نجد تحت عنوان النداء: " أحيانا يظهر لى بوجهه الجميل فيلقى إلى نظرة رقيقة ويهمس: ’اترك كل شىء واتبعنى‘. قد يلقانى وأنا فى غاية الإحباط، وقد يلقانى وأنا فى غاية السرور، ودائما ينتزع من صدرى الطرب والعصيان. وكلانا لم يعرف اليأس بعد ".
-
- - أما ملحمة الحرافيش، التى تمثل حلم المدينة الفاضلة، فهى مكتوبة بلغة فريدة. جمل قصيرة خالية من حروف العطف. معانى مركزة. لغة شعرية حافلة بالحكمة والتأمل. ويرى الناقد رجاء النقاش أن أسلوبها شديد التأثر بمزامير داود لدرجة أنه أطلق عليها: "مزامير نجيب محفوظ" ولكنى أتصور أنها تحمل أيضا أصداء من سفر الأمثال. هيا نستمع إلى أمثلة من الحكمة المقطرة فى عبارات مختزلة: " لو أن شيئا يمكن أن يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول؟!. ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. البسمة قدر والدمعة قدر. من يسترشد يجد من يرشده. قدح الحياة حتى فى أسعد أحوالها لا يخلو من كدر وسم. العدل قيمة يحبها فى النهاية من ينتفع بها ومن يخسر. الإنسان لعبة هزيلة والحياة حلم. من يحمل الماضى تتعثر خطاه. لا خجل فى الضعف إذا المرء عليه انتصر. الحزن كالوباء يوجب العزلة".
- - وتناول محفوظ لشخصية المرأة الساقطة فى أعماله، من أمثال نفيسة فى بداية ونهاية، نور فى اللص والكلاب، وريرى فى السمان والخريف، يذكرنا بموقف السيد المسيح من المرأة الخاطئة: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر". فنجد محفوظ لا يدينهن، بل يتعامل معهن برحمة، وبتفهم للظروف القاسية التى دفعتهن إلى السقوط، ولا يغفل النواحى الطيبة فى شخصية كل منهن.
- - أما العمل الذى أثار أزمة كبرى، وكاد أن يكلف الكاتب حياته، فهو أولاد حارتنا. ورغم أن تأثيرالكتب الدينية جلى فى الرواية، وخلفيتها مستلهمة منها، ورغم أن الرمز فيها واضح لا يمكن إنكاره، فأبطالها شخصيات موازية للأنبياء؛ بل ومن المحتمل للخالق جل جلاله، فإن الرواية عمل فنى قد يستمد عناصره من مصادر معروفة، ولكنه لا يترجمها ترجمة حرفية. وشخصيات الرواية ليست تصويرا فوتوغرافيا لشخصيات محددة، فالشخصية الفنية رغم أنه قد يكون لها أصل فى الواقع، فإنها فى الإطار القصصى تصبح مجرد شخصية روائية لا يجب أن يحاسب عليها المؤلف إلا فنيا.
ومن حسن الحظ أن المسيحيين بلا استثناء تقريبا، قد تقبلوا الرواية من هذا المنطلق، وقرءوها على أنها عمل أدبي وليست نصا دينيا، ولم يعتبروا أنها تشويه لقصة الخلق ورسالة الأنبياء. وبالتالى لم يغضبوا من الطريقة التى صورت بها شخصية رفاعة، التى تعتبر موازية للسيد المسيح فى التسلسل الروائى.
والرواية كما أراها- ويراها الكثيرون- هى تصوير لبحث الإنسان الأزلى عن اليقين والسعادة والعدالة. ويلقى محفوظ بتساؤلات فلسفية يتركها بلا إجابات قاطعة. هل تحقيق المراد يكون عن طريق القوة أم المحبة أم العدل أم العلم؟!
ورفاعة فى الرواية أثنى أصحابه عن السعى إلى الإرث الأرضى (أو الوقف كما رمز له فى القصة)، ونبذ العنف، ودعى إلى الحب ولهزيمة الشر بالخير، وجعل جل همه شفاء النفوس و تخليصها من الخطيئة الكامنة فيها ( أو العفاريت كما فى النص الأدبى)، ولم يبخل على غير آله بنعمة الشفاء. وكانت هذه هى خلاصة الرسالة التى حملها تلاميذه من بعده. ولأنه شخصية روائية وليس نسخة مطابقة لشخص السيد المسيح طبقا لما جاء فى الإنجيل، فلا مانع من أن يكون لرفاعة فى القصة أب وأم كباقى الخلق، وأن يتزوج من امرأة خاطئة، بل وأن يعير بأنه "كودية زار"، و أن يرفع الجبلاوى (الشخصية الملغزة المحيرة للعقول التى لم يرها أحد) جثته ويدفنها فى حديقته. فكل هذا يدخل فى إطار الصنعة الفنية.
ونلمح مفهومه لبعض الجوانب من العقيدة المسيحية ونظرة الآخرين لها فى ثنايا أعماله:
- ففى القصة القصيرة البارمان، من مجموعة خمارة القط الأسود، نجد البارمان اليونانى الخواجا فاسيليادس يحدث الراوى عما وراء الموت فيقول:" إذا جاء الموت أعقبته سعادة كبرى... ألا يشبه الظلام الذى أتيت منه الظلام الذى ستذهب إليه بعد عمر طويل؟ وقد أمكن أن يخرج من الظلام الأول حياة، فما يمنع من أن تستمر الحياة فى الظلام الثانى؟!" وهنا يصيح الراوى وهو ثمل: " برافو فاسيليادس يا صوت القديسين".
- وفى قصر الشوق نجد هذا الحوار الطريف الذى يستجوب فيه أحمد عبد الجواد ابنه كمال بخصوص مقالة نشرها يعرض فيها نظرية النشوء والارتقاء لدارون. يقول الأب: "إنى أعرف أقباطا ويهودا فى الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم...فمن أى ملة دارون هذا؟... خبرنى أهو من أساتذتك بالمدرسة؟" فيجيب كمال بصوت متواضع:" دارون عالم انجليزى مات منذ زمن بعيد". ولكن رغم الإقرار بأن كل الأديان تؤمن بآدم، نجد الأم تقول:" قل لهذا الإنجليزى الكافر.. إن آدم هو أبو البشر".
- - وفى السكرية تسأل العالمة زبيدة رياض قلدس عن اسمه، وعندما يجيبها تقول بدعابة: "كافر؟!". ثم تسترسل فى المباهاة بالتاجر القبطى الكبير الذى كان من ضمن عشاقها.
- وفى ميرامار نلتقى بماريانا صاحبة البنسيون اليونانية وهى جالسة تحت تمثال العذراء. يسألها أحد النزلاء: طلبة مرزوق (وهو من الأعيان الممتلئين بالمرارة لأن الثورة وضعته تحت الحراسة): "لماذا رضى الله بأن يصلب ابنه؟" فتجيب:" لولا ذلك لحلت بنا اللعنة". فيضحك طويلا ويقول:"ألم تحل بنا اللعنة بعد؟!".
- - وفى أولاد حارتنا إشارة إلى الخطيئة الأصلية، حيث يحدث همام ( الذى يمثل هابيل) نفسه قائلا:" فوق رءوسنا لعنة من قبل أن نولد".
- - وفى أقصوصة جنة الأطفال، من مجموعة خمارة القط الأسود، نقرأ هذا الحوار بين طفلة وأبيها: الطفلة:" أنا وصاحبتى نادية دائما مع بعض... ولكن فى درس الدين أدخل أنا فى حجرة وتدخل هى فى حجرة أخرى؟" الأب: " لأنك أنت مسلمة وهى مسيحية". الطفلة: " من أحسن؟" الأب: " هذه حسنة وتلك حسنة". ولكن الطفلة تسأل لماذا لايمكن أن تكون مثل صديقتها، فيقول الأب:"أنت تعرفين الموضة... وكونك مسلمة هو آخر موضة، لذلك يجب أن تبقى مسلمة". فترد الطفلة:"هل أقول لها أنها موضة قديمة؟" .وتستمر الإبنة فى تساؤلها: " أين يعيش الله؟". الأب:" فى السماء". الطفلة:" ولكن نادية قالت لى أنه عاش على الأرض... وأن الناس قتلوه". الأب:"كلا يا حبيبتى، ظنوا أنهم قتلوه...".
ويكشف الكاتب بوضوح عن موقفه الرافض للتعصب ضد الأقباط ( وهو الموقف الواقعى فعلا وليس من وحى الخيال) من خلال شخصية عبد الوهاب اسماعيل فى كتاب المرايا. هذه الشخصية الروائية تمثل سيد قطب الزعيم الإخوانى. يقول عنه فى الرواية:"وبالرغم من أننى لم ألق منه إلا معاملة كريمة إلا أننى لم أرتح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه...". والمعروف أن قطب قد استهل حياته بكونه ناقدا أدبيا جيدا، وكان أول من كتب عن نجيب محفوظ مبشرا بموهبته الواعدة. ثم يروى الكاتب عنه هذه القصة: "بالرغم من تظاهره بالعصرية فى أفكاره وملابسه... إلا أن تعصبه لم يخف على. أذكر أن كاتبا قبطيا شابا أهداه كتابا له... فقال لى عنه... إنه ذو أصالة فى الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة... متى تكتب عنه؟ فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك! سألته: ماذا تعنى؟ فقال بحزم: لن أشترك فى بناء قلم سيعمل غدا على تجريح تراثنا الإسلامى...فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟ فقال باستهانة: لاتهددنى بالاكليشيهات فإنها لا تهزنى. قلت: يؤسفنى موقفك. أجاب:.. أصارحك بأنه لا ثقة لى فى أتباع الأديان الأخرى!..".
أما بخصوص الشخصيات المسيحية التى تضمنتها أعماله، فقد جاءت كلها فى سياق طبيعيى، بدون إقحام على العمل الأدبى، كما صار يحدث فى الكثير من الأعمال الحديثة، حيث يزج الكاتب بشخصية مسيحية أو اثنين، بصورة مفتعلة، لمجرد الدخول فى زمرة المنادين بالوحدة الوطنية.
- لعل رياض قلدس فى السكرية هو أحد الشخصيتين المسيحيتين اللتين أفرد لهما محفوظ مساحة واسعة. ارتبط هو وكمال ( الذى يحمل الكثير من ملامح شخصية نجيب محفوظ الحقيقية) بصداقة متينة، وعلاقة فكرية غنية. ومن خلال الثقة والصراحة التى توفرت فى علاقتهما، تفتحت أعين كمال (أو محفوظ بمعنى آخر) على مخاوف الأقباط و معاناتهم، فعرف من رياض أن الأقباط ينتمون إلى الوفد لأنهم يرون فيه حزب القومية الخالصة. ويرى حزن رياض عندما أقيل مكرم عبيد من الحزب، فيقول لكمال:" سيجد الأقباط أنفسهم بلا مأوى... وإذا اضطهدنا الوفد فكيف يكون الحال؟" .فتساءل كمال متغابيا: "مكرم ليس الأقباط والأقباط ليسوا مكرم. إنه شخص ذهب، أما مبدأ الوفد القومى فلن يذهب". فهز رياض رأسه فى أسف ساخر وقال: "هذا ما قد يكتب فى الجرائد، أما الحقيقة فهى ما أعنى... الأقباط يتلمسون الأمان وأخشى ألا يظفروا به أبدا". ويكتشف أن رياض رغم عدم تمسكه بالدين، لايمكن أن ينتزع من أعماقه انتماؤه لأهله وناسه. فعندما يتساءل كمال فى دعابة:" ها أنت تتحدث عن الأقباط! أنت الذى لا يؤمن إلا بالعلم والفن!"، يقول رياض بعد صمت طويل:"أليس من الجبن أن أنسى قومى؟". فيعتذر كمال لصديقه:"لا تؤاخذنى، فقد عشت حتى الآن دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية، فمنذ البدء لقنتنى أمى أن أحب الجميع، ثم شببت فى جو ثورة 1919 المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة". ويستمع كمال إلى رياض وهو يقول: " يؤسفنى أن أصارحك بأننا نشأنا فى بيوت لا تخلو من ذكريات سوء محزنة. لست متعصب، ولكن..." ويتفكر كمال: " كيف يتأتى لأقلية أن تعيش وسط أغلبية تضطهدها؟".
-
والواقع أن محفوظ كان مدركا لارتباط الأقباط بالوفد وزعيمه، فهو يروى للأديب جمال الغيطانى أن أحد أصدقائه الأقباط تزامن زفاف شقيقته مع موت سعد زغلول. فأرسل دعوة الزفاف مجللة بالسواد وقائلة: "ندعوكم لحضور إكليل الخ الخ... والبقية فى حياتكم لموت زعيم الأمة".
ومن خلال تجربة شخصية، أدرك أثر التعصب ضد المسيحيين، فقد رشح فى صدر شبابه لبعثة إلى فرنسا، ولكن لأن فائزين آخرين بها كانوا أقباطا، ولأن المقررين للبعثة قد ظنوا أنه أيضا قبطي ( بسبب اسمه)؛ فقد استكثروا أن تكون الفرصة من نصيب عدد كبير من الأقباط،، فاستبعدوه من الترشيح.
- والشخصية الثانية التى تناولها بإسهاب هى عدلى كريم فى السكرية، ورغم أنه لم يشار لدينه فى الرواية، إلا أنه من المعروف أن شخصيته و الدور الذى لعبه فى حياة أحمد شوكت الفكرية، كانا تصويرا شديد التماثل لسلامة موسى وتأثيره على نجيب محفوظ.
-
- - ويتضمن كتابه المرايا لوحات فنية لشخوص روائية تعكس شخصيات واقعية التقى بها محفوظ خلال مشوار حياته الطويل. ونجد فيه ثلاث شخصيات مسيحية.
- الأول: سابا رمزى زميله فى المدرسة الثانوية. كان كاثوليكيا، ومن خلاله تعرف محفوظ - لأول مرة- على الخلاف بين المذاهب المسيحية. وكانت له قصة كارثية، فقد أحب مدرسة تكبره فى السن، ولما صدته قتلها بمسدس، وبذا اختفى من حياة الطلبة.
والثانى: ناجى مرقص: زميل آخر فى المدرسة الثانوية؛ أرثوذوكسى. يقول عنه محفوظ أنه كان أنبغ تلميذ صادفه فى حياته؛ فهو الأول فى جميع المواد. ولكن بسبب إصابته بداء الصدر وانعدام القدرة المادية، عجز عن مواصلة تعليمه. وعندما التقى به الكاتب صدفة فى طور الشيخوخة، وجده غارقا فى دراسة الروحانيات وتحضير الأرواح.
أما الثالث اسحق بقطر، فهو زميله فى الجامعة، جاء ذكر سريع له فى معرض أنه لم يتردد فى مواجهة أستاذهم الذى خان المبادىء، وشجعه على جرأته أنه كان غنيا، مطمئنا على مستقبله.
- وفى أقصوصة مفترق الطرق، من مجموعة فتوة العطوف، نرى رجلا يتأمل صورة فصل المدرسة، وماذا فعل الزمن بالزملاء القدامى. فيتذكر حنا عبد السيد الذى أصبح طبيبا معروفا، وعبد الملك حنا الذى كانت تنتابه نوبات صرع اضطرته للانقطاع عن المدرسة.
- ويأتى ذكر بعض المسيحيين الأجانب، الذين كانوا يقيمون فى مصر، كشخصيات ثانوية فى القصص والروايات. على سبيل المثال: البارمان اليونانى الذى يتبادل المودة مع زبائنه، صاحبة البانسيون التى تربطها علاقات حميمة بنزلاء البنسيون الدائمين، أساتذة المدارس والجامعات موضع إعجاب وتقدير تلاميذهم، جنود الاحتلال البريطانى، فالدميير المحامى بالمحكمة المختلطة و مدموزيل فلورا الخياطة.
إذن هذا هو المسيحى والمسيحية فى حياة وأعمال نجيب محفوظ. أخوة فى الوطن ورفاق فى الحياة، ليسوا ملائكة وليسوا شياطين، بل بشر عاديون منهم الطيب ومنهم الخبيث؛ ولكن المهم أنه لا يقبل بأى حال من الأحوال أن يحرموا من حقوقهم، أو أن تضمر لهم الكراهية، أو أن يجابهوا بالعداء، من غير ذنب ارتكبوه.
المصدر : ايلاف
مقاطع الفيديو
اخر عيد ميلاد للاديب نجيب محفوظ
No comments:
Post a Comment