جنازة الشغب السياسي
وائل عبد الفتّاح
المعارضة تأكل المعارضة، هذه هي الفقرة المثيرة في استعراض التجهيز للجمهورية المقبلة في مصر. لا جديد في طريقة النظام إعادة الوضع إلى ما قبل ٢٠٠٥ أو دفع الإعلام إلى وضع صامت وتخطيط أرض معركة الانتخابات (البرلمانية أو الرئاسية) بخطوط حمراء مرسومة بعناية فائقة لكي تبدو اكثر رقة مع غلاظتها.
الجديد هو قرار حصول الخطوات كلها في توقيت واحد، لتبدو حملة، لعب فيها هذه المرة لاعبون جدد، بعضهم أو غالبيتهم من المعارضة ذاتها.
أصابع النظام ظاهرة، لكنّ الوجوه الجديدة تؤدي بأناقة أدواراً مارسها من قبل موظفون ثقلاء في أجهزة الدولة. الدراما ساعدتهم، كما بدا في سيناريو نزع أنياب المشاغبة من صحيفة «الدستور»، بإقالة مفاجئة لرئيس تحريرها ومؤسسها (صحافياً) إبراهيم عيسى.
لم يصدق أحد، بمن فيهم إبراهيم عيسى، أن صفقة بيع الجريدة (المنهكة مالياً) إلى الدكتور السيد البدوي هي عملية سرية للتصفية. فالمشتري رئيس حزب «الوفد» المعارض، ظهر بطريقة دراماتيكية في إطار تصنيع النظام لمعارضة بديلة من الإخوان المسلمين.
البدوي ملياردير صنعته التوكيلات الدوائية، وصعد على رأس أمبراطورية سياسية وإعلامية ولدت فجأة، وضمّت إليها الصحيفة المشاغبة مع خطاب بأن الشراء نقلة لا انقضاض.
حسمت المعركة فوراً لمصلحة المال الذي استخدمه سياسياً النظام، الذي وقف يتفرج على المشهد باستمتاع المنتصر، من دون أن يلوّث يديه بالدماء.
ولم يهتم الملّاك الجدد بأن يشمّ الجميع رائحة الجريمة، ولا انهم سيسهمون في إعادة الصحف إلى عصر السمك الميت. لم يهتموا إلا بأناقتهم وهم يعلنون أن الخلاف «مالي» لا يتعلق بالخطوط الحمراء، ولا بمحاولة منع مقال للدكتور محمد البرداعي عن نصر تشرين.
اختفاء البرداعي نهائياً كان جزءاً من أجندة خفية، لم تمررها الابتسامات، والموضوع ليس في ضرب الرجل الذي قُدّم لفترة على أنه «بديل مدني» لنظام مبارك، ولكن في ضرب حلقات الجرأة والشجاعة في مواجهة نظام شرس.
وبعدما كان الضرب فردياً، يخصّ أنصاراً أو مؤيدين يوضعون في المعتقل أو تخطفهم أجهزة الأمن، أصبح الضرب الآن في مؤسسات يحتلها لاعبون يصعدون من العدم السياسي، ويستعيدون الأرض التي ملأتها أشكال معارضة خارج التدجين في دكاكين الأحزاب «الشرعية»، والتي مثَّل الإعلام الجديد في الصحافة المستقلة والفضائيات قوّة الدفع لها.
الآن تُقطع الخطوط، وتُقص الألسنة، ويُمنع الإرسال عن هذه المعارضة، ليُجبر المحاربون على استراحات يُستكمل خلالها وصول حسني مبارك إلى «جمهوريته السادسة».
وصول لا بد أن ترافقه إعادة ضبط وربط لهيبة افتقدت في حرب الشوارع بين النظام والمعارضة. ولهذا، فإن المطابع التي فقدت حذرها خلال السنوات الخمس الماضية، استفاقت ومنعت طبع نشرة «بوصلة» المدافعة عن حرية الكتابة على الإنترنت، لأنها تتضمن إعادة نشر لصور متخيلة تسخر من الصورة الشهيرة التي نشرتها صحيفة «الأهرام» للرئيس مبارك متقدماً على أوباما وكل الحكام المشاركين في مفاوضات السلام، وهو ما عُرف بفضيحة «الفوتو شوب».
كذلك اختفى البرنامج اليومي للمذيع عمرو أديب، مع قرار منع بث قناة «أوربت» من القاهرة بسبب ديونها (لا تتجاوز خمسة ملايين)، و هو ما عُدّ قصّ للسان المذيع المشاغب، الذي يعلن أنه يحب الرئيس مبارك لكنه لا يريد وصول ابنه إلى الحكم. وبعد التأكد من عدم حل الأزمة، تعاقد عمرو أديب مع قناة «الحياة»، التي يملكها أيضاً السيد البدوي، كأن الرجل الذي أعلن وفاة «الدستور» يحتضن انفلات مذيع ليربك الحسابات أو ليعدد الأوراق في يديه.
إنه سيرك وليس استعراضاً، لكنه يُدار بحرفية تتجاوز تجارب سابقة، وربما ألغى السيرك فقرة المشاغبة واستبدلها بفقرات أخرى تنال صرخات الاستهجان بدلاً من صيحات الإعجاب. لكن الجديد أن الارضية التي خلقت من دون وعي ومن تراكم حلقات الجرأة والشجاعة، لن تقبل الوضع بسهولة الزمن الذي كان فيه المجتمع تحت هيمنة النظام.
إلى أين؟ وهل ستولد تجارب جديدة في حرية الصحافة والإعلام أم ستكون جنازات الشغب السياسي مقدمة لسنوات عجاف على الجميع في مصر؟
إبعاد إبراهيم عيسى المفاجئ عن رئاسة تحرير «الدستور» لم يكن الصدمة التي هزّت الشارع الإعلامي المصري منذ ليل الاثنين. بل إنّ الصدمة جاءت من الأسلوب الذي اتبعه الملّاك الجدد للجريدة التي توصف دوماً بأنها الأشرس في معارضتها للنظام المصري. عندما يقع حدث جلل بلا مقدمات، فإنّ البحث عن النيّات المبيتة هو الحل الوحيد لكشف الأسرار. وما حدث مع إبراهيم عيسى وجريدة «الدستور» ـــــ أبرز الصحف الخاصة في مصر ـــــ لا يمكن أن تكون أسبابه ما تردد على ألسنة الكل. ما كان عيسى ليُقال لو كان السبب حقاً التوزيع غير العادل لمستحقات المحررين التي ضوعفت بنسبة 100% بعدما اشترى رئيس حزب «الوفد» السيد البدوي الجريدة قبل شهرين، ثم تلويح بعض الصحافيين بالاعتصام ضد الإدارة التي اتهمت عيسى بأنه ينقل للمحررين معلومات غير صحيحة، ويحابي فئة معينة من المقرّبين إليه.
كذلك يستحيل أن يقال من منصبه بسبب تصميمه على نشر مقال لمحمد البرادعي عن انتصار أكتوبر، وخصوصاً أنّ من اشترى الجريدة يعرف أنها قريبة من حملة البرادعي بحكم موقفها الحاد من التوريث والحزب الوطني الحاكم. وحتى لو كانت تلك هي الأسباب، فالإقالة لا تحدث بهذه الطريقة.
لم يكن أحد يتخيّل أن يأتي رضا إدوارد شريك السيد البدوي إلى مقر الجريدة فجر الثلاثاء، ليصادر أجهزة الصحيفة ومعداتها ويقول للمحرّرين المعتصمين إنّه قادر على إصدار «الدستور» بـ«صباع رجله».
جريدة بهذه القيمة لا يمكن أن تنتهي بهذه الطريقة، وخصوصاً أن مقال البرادعي نشر لاحقاً على موقعه الخاصّ، والكل أجمع على أنّه لم يكن يحوي ما يسيء إلى النظام. ثم إنّ ملّاك الجريدة هم زعماء حزب «الوفد» الذي يُفترض أنه معارض للنظام نفسه الذي ينتقده البرادعي، فيما احتشد محرّرو الجريدة وتضامنوا مع رئيسهم المخلوع، قبل أن ينتبهوا إلى أن الإقالة حصلت بعد تسجيل عقود شراء الجريدة رسمياً... فهل كان الأمر مبيّتاً منذ البداية، فيما كانت مسرحية التمسك بإبراهيم عيسى ضرورية حتى يُستولى بالكامل على الجريدة؟ لكن لو كانت هذه الفرضية صحيحة، فلماذا انطلق تطوير الجريدة يوم 27 أيلول (سبتمبر) الماضي تحت إدارة عيسى نفسه وزادت صفحاتها إلى عشرين يومياً بعدما كانت 14 صفحة طوال فترة إدارتها من قبل مؤسسها عصام إسماعيل فهمي؟ وهل كان الأخير على علم بما يُخطَّط لإبراهيم عيسى لكنّه لم يحذره؟ وهل فات على عيسى ما يحاك ضده، فوافق على بيع الجريدة ليكون هو أول الضحايا؟
هذه الأسئلة كلها لا تزال معلّقة، غير أن محرري «الدستور» المعتصمين في جريدتهم، استخدموا «فايسبوك» خير استخدام لنقل الأخبار إلى المهتمين بمصير «الدستور»، فأكدوا بداية أنّ موقع الجريدة الإلكتروني ما زال مملوكاً لإبراهيم عيسى، لا لأصحاب الجريدة الجدد، ونشروا عليه بياناً تضامنياً وفيديو يوضح عملية نقل الأجهزة من مقر الجريدة. وأكدوا أنّ أي صحيفة ستصدر غداً (اليوم) باسم «الدستور» لا تعبّر عنهم. وأعلن الكاتب الساخر عمر طاهر امتناعه عن الكتابة، فيما بدأ الكشف عن الأسماء المرشحة للجلوس على مقعد رئيس التحرير المخلوع. وبعد أن تم تداول أسماء سليمان جودة، ومحمد أمين، ومحمود مسلم، وجميعهم من الكتاب في جريدة «المصري اليوم»، كشف في وقت من متأخر من مساء أمس عن تعيين محمد أمين في رئاسة تحرير الصحيفة. فيما خرج عيسى أمس على «الجزيرة» ليؤكّد أنّ ما يحدث هو مخطط من شخصية سياسية وصفها بـ«الساحر» الذي يريد إخفاء «الدستور» ومحرّريها، وأن الهدف هو عودة مصر إلى مرحلة ما قبل 2004 حين لم تكن هناك حركة «كفاية» أو فضائيات أو صحف خاصة تكشف النظام الذي يريد أن يمرّر الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة بهدوء. وأضاف أنّ السلطة لا تريد سوى «الأحزاب الناعمة والأليفة».
واللافت أنّ رئيس تحرير «روز اليوسف» عبد الله كمال، ورئيس تحرير موقع «الأزمة» نبيل شرف الدين، نشرا خلال اليومين الماضيين ما يفيد بتضخم الأزمة بين رئيس التحرير المخلوع وأصحاب الجريدة الجدد لأسباب عدة، بينها إصرار عيسى على «محاباة» جماعة الإخوان المسلمين التي يشتري أتباعها الصحيفة يومياً. لكن تلك التوقعات لم تصل إلى أن الأزمة قد تطيح إبراهيم عيسى، علماً بأنّ الإعلامي المخضرم خسر أخيراً إطلالته التلفزيونية على قناة «أون تي في» من خلال برنامج «بلدنا بالمصري»، إذ أصدرت القناة بياناً أكدت فيه أنّه قرر التفرّغ لإدارة الجريدة بعد تطويرها! وسرعان ما انتشرت أخبار عن تعرّض القناة لضغوط أمنية، وخصوصاً أنّ خروج عيسى منها تزامن مع أزمة شبكة قنوات «أوربت» ومدينة الإنتاج الإعلامي التي أدت إلى غياب عمرو أديب عن الشاشة إلى أجل غير مسمّى.
No comments:
Post a Comment