حذر خبراء صناعة الفسيخ من مخاطر تصنيع الأكلة الشعبية، وأكدوا أن الخطأ قد يؤدى إلى الوفاة أو الشلل، نتيجة عدم الدراية بأصول الصنعة، أو لسبب سوء التخزين فى علب الصفيح، أو اللجوء إلى طرق فاسدة فى تسوية الفسيخ بهدف تحقيق الربح السريع، فى الوقت الذى اعترف فيه أصحاب مصانع الرنجة بأن سمكة «الهارينج» التى تصنع منها الرنجة تحتوى على ١٠٠ طفيل، ويحتوى وزنها على نسبة ١٠٪ من الديدان، وأكدوا أن أصحاب المصانع متخمون بالمحاضر والمخالفات والقضايا والأحكام، نتيجة عدم قدرتهم على الوفاء بالمواصفات القياسية، بسبب تعرض سمكة الرنجة إلى نسبة من الرطوبة، وهو ما اعتبروه أمراً خارج إرادتهم.
كما أكد المراقبون البيطريون أن بعض التجار يلجأون إلى طلاء الرنجة بمادة «الجملكة» لإكسابها اللون الذهبى، وأوضحوا أن السمك فى حالته الجيدة، يكون متماسك اللحم والقشر وخياشيمه وردية اللون. و«المصرى اليوم» تواصل فتح ملف صناعة الفسيخ من خلال جولة فى بعض المدن الشهيرة بتلك الصناعة.
التجار يدهنون الرنجة بـ«الجملكة» فى الغربية.. وتخزين الفسيخ فى الصفيح الأكثر خطراً
المصرى اليوم» تابعت إحدى حملات التفتيش على أسواق الفسيخ والرنجة فى محافظة الغربية تحت قيادة الدكتور أحمد غنيم مدير إدارة المجازر والتفتيش فى محافظة الغربية، وقال: «إن مواصفات الأسماك الجيدة، سواء كانت مملحة أو مدخنة أو طازجة، تكون ظاهرة بشكل واضح على الأسماك، وأهم وسيلة للتعرف عليها، الرائحة ولون أنسجة السمكة، ويكون وردياً وتماسك لحم السمكة وقشورها».
سألناه عن سبب تخزين أصحاب المحال للأسماك فى براميل بلاستيكية فقال، إنه رغم أضرارها الصحية، إلا أنها أقل بكثير من الأضرار التى تخلفها البراميل المصنوعة من الصفيح القديم، الذى يظهر عليه الصدأ نتيجة تفاعل المياه والملح وكذلك الخشب المتهالك المقوى بأحزمة من الصلب، التى تسبب أسوأ أنواع التسمم أما بالنسبة للرنجة الفاسدة فإنها لا تقل خطورة عن الفسيخ الفاسد، خاصة مع قيام بعض التجار بدهنها بـ«الجملكة» كى تكسبها اللون الذهبى اللامع، لافتاً إلى أن الرنجة الصحية لا تأخذ اللون الذهبى اللامع أبداً، وأن أكبر المشكلات هى صنعها بعد فكها وتجمدها أكثر من مرة، بسبب النقل من مكان إلى آخر والخروج من الثلاجات أكثر من مرة.
وخلال جولتنا لاحظنا اتجاه المفتشين نحو تاجر للأسماك للتأكد من سلامة الأسماك التى يبيعها وبعدها استمروا فى السير نحو الحارات الضيقة الموجودة خلف سوق الفسيخ، وخلال السير قادتنا رائحة كريهة جداً إلى أحد المحال المغلقة، وهناك قام المفتشون بفتح «ترابيس» الباب الحديد وفوجئنا بكميات كبيرة من الفسيخ والأسماك المخزنة خارج الثلاجة، منها ما هو مملح بطريقة الكمر لكن فى الأكياس البلاستيكية مما أدى إلى احتفاظ الأسماك بدمائها وبسبب تفاعل البكتيريا خلفت تلك الرائحة النتنة، وبعد مشادات كلامية مع صاحب المخزن الذى ظهر فجأة أمام المفتشين تمت مصادرة كمية لا تقل عن ١٠٠ كيلو من الفسيخ والأسماك الفاسدة وعمل محاضر لصاحب المحل.
وقال مصطفى صلاح كبير مفتشى مديرية التموين بالغربية إن المديرية بها ٥ مفتشين، ومديرية الطب البيطرى بها ٣ أطباء، مما يلقى أعباء كبيرة عليهم خاصة مع تطور وسائل الغش والتزايد الهائل لمصانع بير السلم ومخازن ومحال بيع السلع الغذائية خاصة فى موسم شم النسيم، ولفت إلى أن ضآلة رواتبهم وامتناع مباحث التموين عن المشاركة فى حملات التفتيش يشكلان فجوة كبيرة فى عملية الرقابة على الأسواق.
مدير مصنع: الرنجة تحتوى على ١٠٠ طفيل و١٠٪ من الديدان.. والسوق بلا رقابة
اعترف عدد من أصحاب مصانع الرنجة باحتواء سمكة الهارينج، التى تصنع منها الرنجة، على ١٠٠ طفيل إضافة إلى نسبة ١٠٪ من الديدان، ضمن وزنها، وأكدوا عدم قدرتهم على الوفاء بالمواصفات القياسية التى أقرتها وزارة الصحة، بسبب تعرض السمكة المجمدة إلى التهوية أثناء عمليات النقل، وتعرضها للرطوبة رغما عنهم، مما يعرضهم إلى تحمل الكثير من الغرامات، إضافة إلى المحاضر والأحكام القضائية.
كان لـ«المصرى اليوم» جولة فى منطقتى البساتين والدويقة أشهر مناطق تصنيع الرنجة فى القاهرة، وفى الدويقة التقينا مدير أحد مصانع الرنجة الذى رفض ذكر اسمه، أو تصوير مصنعه، لكنه قال: «الرنجة المدخنة صناعة تشرف عليها وزارة الصحة، والحى والتموين والطب البيطرى، وتقوم على سمكة (الهارينج) التى نستوردها من هولندا والنرويج، لكننا نعانى من تعنت المسؤولين والجهات الرقابية ضدنا بسبب المخالفات المحررة ضدنا»، وتابع: أصحاب المصانع يدفعون غرامات دورية، تصل إلى ٢٠ ألف جنيه، إضافة إلى الأحكام القضائية التى تلاحق أصحاب المحال.
وقال: «سمكة الهارينج» تحتوى على ١٠٪ من الديدان و١٠٠ طفيل، وتوافق الجهات الحكومية على الاستيراد، لكن المواصفات القياسية التى تقرها «الصحة» تطالب بأن تكون «الرنجة المدخنة» خالية من الديدان والطفيليات، وهو أمر يصعب تنفيذه، لذا أصبحت جميع مصانع الرنجة مخالفة، وصدرت أحكام قضائية وغرامات فى مواجهة أصحابها، لذا نطالب كأصحاب مصانع بتغيير المواصفات القياسية، بما يتناسب مع طبيعة الأسماك التى نشتريها.
ويضيف: صناعة الرنجة تعتمد على الخبرة، ونقوم بتمليح الأسماك لمدة ١٥ يوماً، ثم تدخينها لمدة يومين، لكن المشكلة الكبرى التى تواجهنا عند الصناعة هى المخالفات المحررة ضدنا، بسبب وجود رطوبة بأنسجة الرنجة المدخنة، والتى لا علاقة لنا بها، لأنها بسبب تعرض الأسماك المجمدة إلى الهواء، ثم إعادة تجميدها مرة ثانية، لحين صناعتها وتدخينها.
الغريب فى الموقف أنه أثناء وجودنا أمام أبواب المصنع حضرت إحدى سيارات وزارة الصحة وضمت موظفا وسائقا، نزل السائق وقابله مدير المصنع بنفسه وحمل عاملان ٤ صناديق رنجة خشبية وكيسين من الفسيخ وتم إيداعها داخل سيارة وزارة الصحة.
ورثة المهنة فى دسوق: الخطأ فى الصنعة قد يؤدى إلى الموت أو الشلل
يحيط مسجد سيدى إبراهيم الدسوقى الكثير من محال الفسخانية وتعد مدينة دسوق بكفر الشيخ من أشهر المدن فى صناعة الفسيخ والسردين، اللافت للانتباه أن أغلب لافتات المحال تشير إلى عائلة «أبوطاحون»، التقينا عائلة شحاتة أبوطاحون الذى توفى فى ديسمبر الماضى، لكن أبناءه الثلاثة قرروا أن يستكملوا مسيرة والدهم لاقتناعهم بها، ليديرها الابن الأصغر، الذى كان يعيش ويعمل فى الولايات المتحدة الأمريكية.
«الفسيخ مش صناعة.. لكنه خبرة وموروث ثقافى يعود إلى مصر الفرعونية، ولا يمكن القضاء عليه بعد أن عاش أكثر من ٧٠٠٠ سنة».. بهذه الكلمات بدأ أحمد عبدالفتاح أبوطاحون، الذى يرى أنه لا يجب أن يتخلى عن خبرته وصنعته، بعدما ذاع صيت عائلته فى كل محافظات مصر، حتى إن المشترين يأتون إليهم كى يتذوقوا ما صنعت أيديهم.
وقال: حرفة الأجداد تراث مصرى لا يجب التخلى عنها، لأنها لا تقل عن شوربة الضفادع الفرنسية، أو حشرات الصين المطهية، وأضاف: «يكفى مريض الأنفلونزا، الذى فشل فى علاج المرض، أن يتناول فسيخة واحدة مع بصل أخضر وليمون ليشفى تماماً».
يقول أحمد: «الفسيخ زى الشيكولاتة، لازم يسيح فى الفم ويحس المتذوق بجمال طعمه، والوصول لهذا المذاق لا يحتاج إلى مجرد ملح وصندوق خشبى وسمكة بورى، ولكنه محتاج خبرة ورثناها عن أجدادنا منذ ١٤٠ سنة، فنحن الجيل الرابع من عائلة شحاتة أبوطاحون، الذى جاء من المغرب وعاش فى دسوق فى محافظة كفر الشيخ، ولنا سر صنعة خاصة بنا وميزتنا عن كل الفسخانية، لأن الفسيخ مش سمكة وشمس وملح فقط، فالخطأ البسيط قد يؤدى إلى الموت أو الشلل، وهو ما نواجهه مع الدخلاء على المهنة، ممن يتخيلون أنها مهنة ذات ربح سريع،
وقال: «أول خطوة فى صناعة الفسيخ هى اختيار سمكة بورى من مياه عذبة، ذات مواصفات خاصة، منها أن تكون من سمك المزارع الكبيرة الجيدة، التى نثق فى أصحابها ممن يعتمدون على العيش والأعلاف وكسر المكرونة فى إطعام السمك، أما من يعتمدون على المخلفات الحيوانية فنبتعد عنهم، لأن تلك الأسماك عند تمام نضجها تكون رائحتها كريهة، الأمر الذى يضر بسمعة محالنا خاصة أنه لا يمكن التعرف على هذه السمكة إلا بعد نضوجها التام».
ويستكمل: كلما كانت السمكة سمينة كانت جيدة بعد تمليحها وتحويلها إلى فسيخ، لأن كل شىء يؤثر على الجودة، مثل طريقة الصيد والنقل والتمليح، وما يقال عن ضرورة وصول السمكة إلى درجة «النتانة» أمر خاطئ، فلكل مرحلة زمنها الخاص بما يتناسب مع درجة حرارة الجو ونوع الملح «ناعم أو خشن»، وحجم ونوع السمكة «بورى أو طوبار»، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة يتوقف على الخبرة وسر الصنعة الموروث الذى تتحكم فيه لمسة اليد، هذه اللمسة لا يمكن أن يكتسبها إلا من تربى عليها.
وأشار إلى أن الطريقة الحديثة تعتمد على «الكمر» فى أماكن مجهزة بعد غسل الأسماك وتنظيفها من الطين الموجود بخياشيمها، ثم تمليحها فى براميل خشبية، توضع فيها الأسماك على طبقات يفصل بين الطبقة والأخرى طبقة من الملح، التى تعد مادة مطهرة وقاتلة للبكتيريا، ويتم تحديد كميات الملح المستخدم وفقا للفترة الزمنية المحدد بيع الفسيخ فيها، فهناك فسيخ صالح لمدة عام كامل، وآخر لا يصلح إلا لشهر واحد، وفقا لمهارة وحاجة الفسخانى، ويكون الفسيخ جاهزا للتناول بعد ٥ أيام من تمليحه فى فصل الصيف، تصل إلى ١٠ فى فصل الشتاء، إلا أنه وفقا لتعليمات وزارة الصحة لا يمكن بيعه إلا بعد مرور ٢١ يوما على تمليحه، وهو ما يتم تسجيله فى ورقة معلقة على البرميل،
وتتميز الفسيخة الجيدة بكونها «سايحة» أو كما كان يسميها والدى «ملبن»، وعن سبل الغش فى الصنعة قال: هناك الكثير من طرق الغش، منها «سلق السمكة» كى تنتفخ فى وقت أقل، أو تخزين الأسماك فى براميل بلاستيكية ومعدنية، مع لصق الغطاء الصفيح بجسم البرميل باللحام الأمر الذى يزيد من شدة التلوث ويجعل من تناول الفسيخ سببا فى حدوث التسمم والشلل.
البس» يصطاد السمك من بحيرة ناصر ويضع الفسيخ تحت إشراف الأطباء البيطريين
«أنا صياد بالوراثة منذ أكثر من ٢٠ سنة، علمنى جدى ووالدى صيد أسماك بحيرة ناصر، السمك اللى هنا كتير ونضيف وأحسن من أى حتة فى مصر، أصل المياه فى البحيرة حلوة مش راكدة، دى مياه النيل الأصلية».
«البس الصياد» عرف مهنة الصيد فى بحيرة ناصر، عندما جاء جده ووالده إلى «أبوسمبل» منذ أكثر من ٣٠ عاماً، وما زال يعيش فى الخيمة التى نصبها جده، مع بعض التطوير، وقال: إن أسماك البحيرة أكبر حجماً وجودة بفعل سريان مياه النيل العذبة، وعدم ركودها كما هو الحال أمام السد العالى.
بدأنا معه رحلته اليومية على قارب الصيد فى بحيرة ناصر، بصحبة أخيه أحمد، التى بدأت من السادسة صباحاً حتى العاشرة صباحاً، وهى الفترة التى يقوم فيها بجمع شباكه، التى رماها البارحة، والتى تحتفظ بكمية من الأسماك، وبعدها عدنا معه بالقارب إلى خيمته على الشاطئ، وتتبعنا معه خطوات تمليح أسماك الفسيخ الأسوانى، التى تبدأ بنقل الأسماك الطازجة فى قوالب خشبية إلى الخيمة، وفى «الطلعة التانية» بعد صلاة العصر يخرج إلى البحيرة لكى يرمى شباكه مرة أخرى.
«الغزل» هى تسمية الشباك عند صيادى أبوسمبل، ولكل سمكة شبكة مخصصة، ويصل سعر شباك سمك كلب البحر إلى ٤٠ ألف جنيه، وهى الأسماك التى تصنع منها أجود أنواع الفسيخ.
لا يتوقف عمل «البس» على الصيد فقط، لكنه بمجرد عودته ينتقل مع مساعديه إلى غرفة التمليح، وتلقى الأسماك فى حوض الغسيل بالمياه المالحة، وتترك ليلة كاملة، وتخرج منه صباحاً، وتفرش أرضية الغرفة بكمية محددة من الملح، وما إن تخرج الأسماك من الحوض حتى تفتح لنزع أحشائها وتنظيفها، ثم ترص على أرضية الملح، وتلقى فوقها طبقة من الملح وتغطى جيداً، وكلما تم اصطياد كمية من الأسماك تجمع ليتم تمليحها وتترك فى الملح لمدة يومين أو ثلاثة، وبعدها تبدأ عملية التمليح الحقيقية.
بعد هذه الفترة يكشف الصياد على الأسماك لضمان سلامتها، وخلوها من الديدان، وبعدها توضع فى صفائح رقيقة غير قابلة للصدأ، وتترك لمدة تتراوح بين شهر و٣ شهور، حسب حجم السمكة ونوعها، يقول «البس»: «السمك بالصلاة على النبى حجمه كبير، وده أحسن أنواع السمك اللى يتعمل منها الفسيخ، والصيادين لهم طرق فى التمليح، لكن أهم حاجة نضافة السمك، وتكون مصارينها نضيفة وجلدها متماسك، وكمان أهم حاجة السمك فى الصفيحة لا يشم الهوا، لأنه لو شم الهوا هيتملى ديدان وحشرات، وفيه أنواع من السمك المملح لكن أشهرها كلب البحر وراية البحر ودول مش موجودين غير فى بحيرة ناصر».
ويضيف «البس»: إن أهم التعليمات التى يوصى بها الأطباء البيطريون المشرفون على التمليح هى عدم تمليح سمكة الجراجير لاحتوائها على نسبة دهون كبيرة، تتفاعل مع الملح وتسبب التسمم، وقال: «لو اصطدت جراجير باطلعها من الشبك خضرا وأرميها تانى فى البحر، وليها استخدامات تانية غير التمليح ممكن تتعمل طواجن، ولو اصطدت سمكة حمار بحر بارميها على الشاطئ أو أرجعها الميه تانى».
No comments:
Post a Comment